لبنان كيان مهدّد دوما لكونه على خط الزلازل الطبيعية، هذه هي الجغرافيا الطبيعية، لكنه كبلد تعدّدي، مكوّن من مجموعة أقليّات طائفيّة لجأت إليه بسبب الإضطهادات التي عانت منها ولا تزال، وكوطن نهائيّ لجميع أبنائه، مهدد لكونه على فوالق بركانية تحيط به، وهذه هي الجغرافيا البشريّة والسياسية لمنطقة الشرق الأوسط. غير أنّ حكمة اللبنانيين استطاعت في الماضي أن تحول دون ارتداد التحركات البركانية عليه. نجحت في مراحل وأخفقت في مراحل أخرى. وقد قامت بذلك متجاوزة أزمات مصيرية حتى بعد حرب دامت خمس عشرة سنة. وفي كل من هذه المراحل كان اللبنانيون يجتازون الأزمات بالاحتكام إلى ميثاقهم وبالالتزام بدستورهم وبحسن العلاقات مع المحيط، وبالالتزام بالحياد مبتعدين عن الصراعات المحلّيّة والدوليّة. وقاموا بهدف الحفاظ على وطنهم، بتسويات تصلح ذات البين ولو لم يلتزموا بها إلى حدّها الأقصى. مع كل ذلك ثبت لبنان على الرغم من توالي الأزمات واستمر.
ما نعيشه اليوم لا يخرج عن هذه القاعدة، لكن الأزمة الحاليّة تتجاوز الأزمات الماضية بحجمها وعمقها، وخصوصًا أنها ولّدت، لأول مرّة بتاريخ الجمهورية اللبنانيّة، تحركات شعبية، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، تريد تغيرًا شاملاً على كل الصعد. كما يشير هذا الواقع إلى أن الجمهورية في حال تشكل جديد. وهذه المرة بخلاف الأزمات السابقة لا أحد يبدي استعدادًا لانزلاق جدي إلى الحرب. ربما يستعاض عنها بحرب من نوع آخر هي الاقتصاد، وسلاحها الدولار وضحاياها المواطنون والقطاعات الإنتاجية، حتى بات الإفلاس عنوان المرحلة ليخلق من الرماد لبنان آخر.
ومن الواضح أن هذا المخطط يسلك طريقه عبر تعرجات متنقلة بين قضية وأخرى وملف وآخر وبين ساعة وأخرى: ساعة الميثاق، وساعة التظام السياسي ، وساعة المؤسسات الدستورية، وساعة النظام المالي والاقتصادي، وساعة القضاء، وساعة السياسة الخارجية. إذا جمعنا كل هذه الساعات نراها تشكل زمنًا واحدًا يعلن ساعة تغيير وجه لبنان.
أمام هذا الواقع، نرى أن القضية في النهاية لا تقتصر على ممارسة الحكم، بل هي تتجاوز النظام السياسي، إنها تمس بالكيان. وأمام هذا التحول الخطير، لم يعد السكوت مقبولاً، لذا قررنا أن نتحد كلبنانيّين من أجل الكيان. وهذه الوثيقة المعنونة “لبنانيّون من أجل الكيان” تعمل على طرح مخارج، نعتقد أنها تساهم في وضع اليد على مسائل هي باب الخروج من الأزمة ليستعيد لبنان عافيته بالدرجة الأولى، حتى إذا ما استقر أمكن الغوص في المعضلات الأكثر دقة.
لذا، إننا ومن منطلق إيماننا بأن لبنان لم يكن نتيجة خطأ تاريخيًّ بل أتت ولادته من إرادة لبنانية، تمكنت أن تدافع في مراحل مفصلية من التاريخ عن خياراتها في أكثر من مناسبة ومحفل. وإذا كنا اليوم ندخل المئوية الثانية على ولادة لبنان الكبير فالفضل في ذلك لهذه الإرادة رغم الوهن الذي كان يعتريها. وليس يخفى على أحد أن هذه الإرادة أوجدت الكيان الذي تجسّد في دولةِ لبنان الكبير 1920، وتكرّس في الدستور سنة 1926، وأنجز استقلاله التام مع ميثاق 1943 وأعاد التمسك به اتفاق الطائف سنة 1989. على هذه المرتكزات يعيش لبنان اليوم، رغم اختلاف التفسيرات التي تعطى لها وحتى تلك التي تنفيها أو تشكك بها.
عندنا أن هذه المرتكزات هي الرافعة الأساسية التي يجب استلهامها للخروج من الأزمة، ونحن في هذه الوثيقة نبني عليها خياراتنا:
أولاً، لبنان دولة واحدة موحدة أرضًا وشعبًا ومؤسسات.
ثانيًا، لبنان جمهورية ديمقراطيّة مؤسسة على الحرية وعلى المشاركة وعلى احترام التعدّدية.
ثالثًا، لبنان دولة قائمة على العيش معًا عبر ميثاقات تاريخية اجتمعت في ميثاق 1943 وأكد الطائف عليها، وأهمها المشاركة في المناصفة بين جناحي لبنان والسيادة المطلقة للدولة تعبيرًا عن التمسك بالعيش معًا والالتزام بالدستور وبالقوانين اللبنانيّة. والتأكيد على هذا الحرص امتد إلى السياسة الخارجية للدولة لحصر جدلية الخارج والداخل من ضمن الحدود التي رسمت منذ الاستقلال.
غير أن الأزمة الأخيرة وتداعياتها كشفت، أن هذا التاريخ والمرتكزات التي عبّر عنها الدستور اللبناني ربما تحتاج إلى إعادة تفسير وأن تعطى معنى جديدًا ليتمكّن لبنان من استعادة لحمته واستقراره ونموه. وهذا يدل على أن تسوية الطائف بما أدخل منها في الدستور وبالشكل الذي أدخل فيه، لم تتمكن في العمق من استيعاب عمق التحولات التي أفرزتها الحرب في البنية اللبنانية. لقد اكتفت هذه التسوية بحصر الإصلاحات ببعض موازين القوى بين المجموعات، دون أن تؤسس لإصلاحات بنيويّة يمكنها أن تعيد للبنان مناعته الداخليّة بقوة دستوره وقوانينه. وهذا ما جعل تطبيق الطائف انتقائيًا بحسب ما يخدم مصالح القوى النافذة ، وأدى بالتحديد من جهة حصر السلاح في الشرعية إلى إدخال لبنان بسبب توليفات على هامش الشرعية إلى تكريس سلطة دولة في قلب الدولة، لا نعرف إلى ماذا ستجر على لبنان إذا بقيت تتحكم به بقوة السلاح وبالخيارات الأحادية التي تمليها على الدولة واللبنانيين.
وبما أن الدول تحيا وتستمر بقوة دساتيرها وانسجامها تعبيرًا صريحًا عن معادلة الثبات والامتداد والصيرورة والتحول، وبما أن الأزمات السياسية والوطنية الحادة لا يتم تجاوزها من دون العبور بالدستور، وبما أن الأزمة الراهنة التي نمر بها لم يعد يكفي لحلها اتباع سياسة تقليديّة لا تطال عمق الأزمات الوجوديّة التي تعصف بالكيان اللبنانيّ، فإننا نجد أنفسنا أمام مرحلة دستورية جديدة. ومن سمات أي مرحلة دستورية أن تتحرك بين حدّي الثوابت الوطنيّة والتحولات السياسيّة، فتؤدي إما لإعادة تفسير دستوري، حيث يجب، أو إلى تعديلٍ دستوري، إذا لزم الأمر، أو للاثنين معًا.
لذا رأينا من واجبنا أن نعلن عن اقتناعاتنا وخياراتنا في هذه اللحظة المفصلية، وذلك بالتركيز على خمسة ملفات نعتبرها أساسية تساعد في الخروج من هذه الأزمة الاقتصادية في ظاهرها، السياسية وحتى الوطنية في باطنها ومضمونها. فلا خروج من هذه الأزمة إلا بالعمل على المسائل الآتية:
أولاً: في الاصلاحات الدستوريّة
لا يمكن أن تبقى الممارسة السياسية متروكة من دون تحديد صريح دستوريًا، وخصوصًا في موضوع المهل والإجراءات الملزمة. لم يعد مسموحًا بعد اليوم ترك ثغر في الدستور مبهمة أو غير منصوص عليها صراحة، يستفيد منها اللاعبون السياسيون أو الممسكون بزمام الأمور ليتحكموا بها تحت ستار حقوق الطوائف وما شاكل، في حين أنها في النهاية تستعمل كمجرد وسائل للكسب والنفوذ وتسخير مؤسسات الدولة لمصالح ذاتية أو فئوية. يتطلب هذا الأمر إدخال تفسيرات جديدة أو تحديدًا جديدًا لبعض الصلاحيات حتى تعمل الدولة بتناغم واضح. هذا المطلب يوافق طبيعة الدستور الذي وضع في الأصل لضبط عمل مؤسسات الدولة وحسن عملها وانتظامها كجهاز متماسك ومتناغم وهادف.
ثانيًا: في مجلس الشيوخ:
يترتب على النقاش أن يصل إلى صيغة دستورية قانونية في شأن مساحة سلطة الطوائف من جهة، وكيفية المشاركة فيها لتكون قوة بناء لا قوة هدم، وهذا لا يكون من دون مجلس شيوخ يقوم على صيغة تشاركية وتمثيلية، تعكس الأمة والدولة على السواء، كما هي حال الكثير من مجالس الشيوخ في العالم. على أن تعطى له صلاحيات واضحة نراها من وجهة نظرنا بحسب الملف الخاص الذي أعددناه لها.
ثالثًا: في الدولة المدنيّة:
آن الآوان لنقاش عميق في موضوع الدولة المدنية، لا من منطلق علماني صرف ولا من منطلق فيدرالية الطوائف، بل من منطلق حدود التعدّد الطائفي وغير الطائفي والمشاركة الوطنيّة وحيادية الدولة بين الطوائف والمجموعات الثقافيّة.
رابعًا: في اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة:
لا يمكن أن تتحقّق المشاركة فعليًا وبشكل عادل، من دون الانتقال من البنية المركزية القوية للدولة إلى البنية اللامركزية الموسعة، وذلك بإدخال اللامركزية في صلب الدستور اللبناني والإعلان عنها في مقدّمة الدستور: “لبنان دولة واحدة موحدة لامركزية”، والقيام بالإصلاحات الدستورية التشريعية اللازمة لهذه الغاية. وقد وضعنا من جهتنا لهذا الملف مبادئ أساسية يمكن البناء عليها.
خامسًا: في موضوع الحياد
كل ما تقدّم يعزّزه موضوع أساسي يعاني منه لبنان منذ وجد هو جدلية الخارج والداخل التي صارت المعبر الأساس والعقدة الفصل صوب الخروج من الأزمة. هذه الجدلية هي الحجة التي تستعملها القوى لتبرر الكثير من فشلها في إدارة الأزمات في مجتمع متعدّد، أو لتشريع الاستقواء. ويقيننا في هذا المجال أن الخارج يدخل أو يستدعى للدخول كل مرة كان لجماعة ما مشروعًا ذاتيًا في الدولة تسعى إلى تحقيقه. والتاريخ اللبناني يشهد على هذه المعادلة. إننا نرى أن لا حلّ لهذه الجدلية ولا إمكان للاستفادة من هذه العلاقة لصالح لبنان ودولته ولكل طوائفه وجماعاته من دون الحياد. فاستعادة سياسة الحياد التي نهجها لبنان منذ الاستقلال باتت مطلبًا لا بل واجبًا وطنيًا. لكن استعادتها تحتم أن يدخل الحياد من ضمن الدستور، بعدما ثبت أن حصره في مبادئ السياسية الخارجية وحدها رغم لعبه أدوارًا مهمة، لم يعد يكفي لصون المصلحة اللبنانيّة العليا والاستقرار الداخلي.
إننا بهذه الملفات الخمسة نعلن عن اقتناع راسخ أن لبنان يستطيع أن يحزم أمره داخليًا فيستعيد ثقة العالم به، وأن بإمكان اللبنانييّن أن يديروا تعددهم إدارة حكيمة رائدها الالتزام بالمواثيق واحترام الدستور والقوانين. هذا لا يعني أننا نغفل المسألة الإقتصادية، لكننا نرى، رغم أهمية هذه المسالة وتصويرها اليوم بأنها هي أم المشاكل، أن الاقتصاد يتبع السياسة في دول كلبنان. طبعًا هناك مسألة اجتماعية ضاغطة، وهذا يفتح طريقًا واسعًا لنقاش في شكل الاقتصاد الذي يحمل وجهًا اجتماعيًا واضحًا. لكن هذا لن يكون إلاّ نتيجة حتمية للإصلاح السياسي، وخصوصًا على صعيد تطبيق اللامركزية الموسعة.
إننا نضع هذه الملفّات الخمسة في خدمة القضية اللبنانية التي لا يمكن لأي مواطن أن يعتبر نفسه غير معني بها. فالوطن لا يقوم على مصالح فئة حاكمة، أو مسيطرة، بل على إرادة جميع أبنائه ليكون وطنًا عزيزًا قويًا بوحدة أبنائه وثبات مؤسساته السياسيّة والإحتماعيّة والثقافيّة، منيعًا بالتزام جميع اللبنانيين بالدستور والقوانين وبالاحتكام إليها في كل الظروف والأحوال.
انشر هذه المقالة
مقالات ذات الصلة
-
اتحاد أورا إنجازات وأرقام 2023
24 أكتوبر، 2024
-
شربل ضوي سراج المي ريسيتال لجومانا مدور في بقاعكفرا
18 يوليو، 2024
-
18 فبراير، 2024
-
22 ديسمبر، 2021
-
الخزّانات الفارغة “ومخزون الروحانية” الذي لا يَنضَب
15 سبتمبر، 2021